-آلاء الحاج حسن-
في زمن صار فيه الصمت أداة حرب، اختارت إسرائيل أن تحارب الحقيقة نفسها.
لم تعد الغارات تكتفي بهدم البيوت فوق ساكنيها، بل باتت تبحث عن الكاميرا التي تكشف، وعن الصوت الذي يروي. من فلسطين إلى لبنان، المشهد واحد: صحافي يرتدي سترة "PRESS" ليس ليحمي نفسه، بل ليصبح علامة تصويب.
هنا، الدم ليس عارضًا في الطريق إلى الخبر… بل صار هو الخبر.
منذ مطلع الألفية، تكررت مشاهد استهداف الصحافييّن على يد الجيش الإسرائيلي، رغم وضوح هويتهم. العشرات سقطوا شهداء بالرصاص أو القصف، من بينهم الشهيد إياد أبو زهرة (2002) الذي كان يرتدي سترة "صحافي"، والشهيدة شيرين أبو عاقلة (2022) التي أُصيبت برصاصة في الرأس أثناء تغطية اقتحام مخيم جنين-الضفة الغربية، رغم أن جميع التحقيقات المستقلة أكدت أن إطلاق النار كان موجهًا ومتعمدًا.
في عام 2018، استُهدف المصور الشهيد ياسر مرتجى في غزة، بينما كان يرتدي سترة واقية كتب عليها "PRESS" بحروف عريضة.
ثم جاءت حرب 2023 لتسجّل الرقم الأسود: 72 صحافيًّا استُهدفوا في غزة واستشهدوا، وفي العام التالي ارتفع العدد إلى 124 شهيدًا، وهي الحصيلة الأعلى في تاريخ لجنة حماية الصحافييّن (CPJ).
ومنذ 7 أكتوبر 2023 وحتى منتصف 2025، تجاوز عدد الشهداء الصحافييّن 186، كثير منهم كانوا ضحايا استهداف مباشر.
لم يقتصر الأمر على فلسطين، فجنوب لبنان صار ساحة موازية لتصفية الإعلاميين.
• علما الشعب– 13 تشرين الأول/اكتوبر 2023: استشهد الصحافي عصام عبدالله مصوّر وكالة "رويترز" جراء قذيفة.
• طير حرفا – 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023: مراسلة "الميادين" الشهيدة فرح عمر والمصور الشهيد ربيع المعماري استُهدفا بقذيفة مباشرة أثناء بث مباشر. الكاميرا انطفأت فجأة، والمشاهدون رأوا اللحظة الأخيرة.
• برج رحال – 23 سبتمبر/ ايلول 2024: غارة جوية إسرائيلية استهدفت منزل الصحفي الشهيد هادي السيد، في مكان كان يُفترض أنه ملاذ آمن.
• حاصبيا – 25 تشرين الاول/ اوكتوبر 2024: مجزرة بحق الصحافييّن وهم نائمون.
حيث تم استهداف مقر معروف كمأوى إعلامي خالٍ من أي نشاط عسكري، ارتقى جراء الغارة الشهيد غسان نجار والشهيد محمد رضا من "الميادين" والشهيد وسام قاسم من "المنار".
• انصارية صور – 9 اغسظس/ آب 2025: استشـهاد مدير موقع "هوانا لبنان" الصحافي محمد شحادة جراء غارة استهدفت سيارته.
حين تتكرر الحوادث بالسيناريو ذاته صحافي معروف، موقع واضح، غياب أي خطر عسكري يصبح من السذاجة اعتبارها "أخطاء ميدانية".
النمط واضح: ضرب البنية الإعلامية واستهداف الشهود على الجرائم. الرسالة المبطنة تقول: "إن لم نصمت خصومنا، سنصمت الكاميرات".
رغم الإدانات الشكلية، لم يُفتح أي تحقيق دولي جاد، ولم تُفرض محاسبة حقيقية. تُبرر إسرائيل أفعالها بـ"حق الدفاع عن النفس"، حتى حين يكون "التهديد" عدسة تصور مشهدًا أو ميكروفونًا ينقل شهادة.
هذا الصمت الدولي يمنح الضوء الأخضر لتكرار الجريمة، ويحوّل استهداف الصحافة إلى استراتيجية حرب معترف بها ضمنيًا.
استهداف الصحافي ليس نهاية شخص، بل محاولة لاغتيال الحقيقة.
الرصاصة التي تسقط حامل الكاميرا تُسقط معها فرصة العالم في رؤية ما يجري.
إذا لم تُحاسب إسرائيل على سجلها الدموي ضد الإعلاميين، فإننا نفتح الباب لعصر تصبح فيه الكلمة هدفًا مشروعًا.
لتبقى الصحافة صوتًا للحق، وصرخة أمام الظالمين، ورسالتها ستظل تضيء الطريق لكل من يريد كشف الظلم، مهما حاول المجرمون طمس الكلمة.