
-محمد بزّي-
لم يكن مستغربًا قرار الاتحاد الدولي لكرة القدم "الفيفا" رفض استبعاد إسرائيل من المشاركة في المسابقات الدوليّة، متحدّيًا رغبة غالبية الاتحادات المحليّة في أوروبا، في خطوةٍ أثارت موجة غضبٍ واسعة داخل الأوساط الرياضية والحقوقية حول العالم.
فالقرار جاء في لحظةٍ تتساقط فيها مئات الضحايا يوميًا في غزّة، في ظلّ حرب إبادة ودمار شامل، ومع ذلك، تفضّل المؤسسة الكروية الأولى في العالم الاحتماء وراء شعار "عدم التسييس"، بينما تغضّ الطرف عن جريمةٍ تُبثّ للعالم بأكمله.
ازدواجيّة المعايير.. روسيا تُعاقب وإسرائيل تُعفى
في شباط/فبراير 2022، ومع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، لم يتردّد الفيفا والاتحاد الأوروبي لكرة القدم (اليويفا) في فرض عقوبات صارمة على موسكو، عبر تعليق العضوية، إقصاء الأندية الروسية، ومنع رفع العلم والنشيد الوطني الروسي في كل الفعاليات الدولية. قرارات وُصفت حينها بأنها "انتصار للأخلاق الرياضية"، وما زالت سارية حتى اليوم.
لكن عندما يتعلّق الأمر بإسرائيل، التي دمّرت ملاعب غزة ومنشآتها الرياضية وقتلت عشرات الرياضيين الفلسطينيين، يلوذ الفيفا بالصمت، لا تعليق ولا عقوبات ولا حتى إدانة رمزية.
بل على العكس، يشارك المنتخب الإسرائيلي في تصفيات كأس العالم 2026 بشكل طبيعي، ولا تزال آماله قائمة حسابيًا بالتأهل إلى النهائيات التي تستضيفها الولايات المتحدة والمكسيك وكندا. أليس هذا أبلغ تجسيد لازدواجية المعايير؟ روسيا تُعاقب باسم "الإنسانية" وإسرائيل تُكرَّم باسم "الحياد"!
ضغوط سياسية وابتزاز أميركي
تزايدت الدعوات خلال الأسابيع الأخيرة لمعاقبة إسرائيل من قبل اتحاداتٍ أوروبية ومنظماتٍ رياضية مستقلة، ما وضع الفيفا تحت ضغطٍ متنامٍ. لكنّ الأمور اتخذت منحى سياسيًا حين تدخّل الرئيس الأميركي دونالد ترامب مهددًا بشكلٍ مباشر بعدم استضافة بلاده لمونديال 2026، في حال قرّر الفيفا استبعاد إسرائيل من البطولات الدولية.

تهديدٌ فاضح يعكس حجم السيطرة السياسية على القرار الرياضي، ويكشف أن المؤسسة التي تتغنّى بـ"استقلالية الرياضة" ترضخ للابتزاز السياسي والهيمنة الأميركية.
ولعلّ هذا ما يفسّر الصمت المطبق من رئيس الفيفا جياني إنفانتينو الذي اكتفى بالقول إن "الاتحاد الدولي يسعى إلى توظيف كرة القدم لتوحيد الشعوب في عالمٍ منقسم"، في تصريحٍ بدا أقرب إلى التبرير منه إلى الموقف الأخلاقي.

احتجاجات في أوروبا.. وإيطاليا في الواجهة
وفي خضمّ هذه العاصفة، تتجه الأنظار إلى مدينة أوديني الإيطالية، حيث من المقرّر أن يواجه المنتخب الإسرائيلي نظيره الإيطالي ضمن تصفيات كأس العالم. المباراة المرتقبة تحوّلت إلى قضية رأي عام في إيطاليا، إذ تتعالى أصوات ناشطين وحقوقيين ونقابات عمّالية تطالب بعدم استضافة المنتخب الإسرائيلي على الأراضي الإيطالية، معتبرة أن السماح له باللعب "تواطؤ مع الاحتلال وتطبيع مع الجريمة".
الفيفا.. شريك في التواطؤ
ما يقوم به الفيفا اليوم لا يمكن وصفه إلا بـ"تواطؤٍ مؤسسي" مع الجريمة. فالمنظمة التي عاقبت روسيا بذريعة الحرب، تتعامى عن جرائم إسرائيل المستمرة منذ عامين في غزة، في مشهدٍ يختصر انحياز العالم للقاتل على حساب الضحية.
لقد تحوّلت كرة القدم، التي وُجدت لتوحيد الشعوب، إلى منصّة لتبييض جرائم الاحتلال، وإلى مرآة تعكس نفاق النظام الدولي الذي ينتفض لأجل أوكرانيا ويصمت أمام أشلاء أطفال غزة.
إنها حقًّا ازدواجية المعايير في أبهى صورها، فحين تُستثنى إسرائيل من المحاسبة، يُصبح الصمت تواطؤًا، ويغدو الفيفا شاهدًا زورًا على زمنٍ يسقط فيه كلّ ما تبقّى من القيم الرياضية والإنسانية.