
في شمال لبنان، عند قلب عكّار، تقع قرية فريدة من نوعها تجمع بين ثقافتين ولغتين: العربيّة والتركيّة. بلدة الكواشرة ليست مجرد قرية عاديّة، بل وديعة تركيّة بانتماء لبناني، حيث حافظ سكانها على جذورهم التركيّة منذ أكثر من 400 عام رغم خروج الجيش العثماني من لبنان.
سياق تاريخي عريق
وصل الأتراك إلى الكواشرة في عهد السلطان سليم الأوّل خلال حملته لفتح مصر وفلسطين عام 1516، وأسّسوا فيها عائلاتهم. بقيت البلدة محتفظة بعاداتها وتقاليدها ولغتها التركية حتى سقوط الدولة العثمانية، رغم التحديات التي واجهتها من المجتمع اللبناني المحلي في البداية. وبعد انقطاع الصلة مع تركيا لفترة طويلة، عادت السفارة التركية لتولي شؤون البلدة بشكل إنساني منذ عام 1987، من خلال مشاريع تعليمية وصحية وتنموية، دون أي تدخل سياسي أو “فرمان عثماني”.
اليوم، يعيش في الكواشرة أكثر من 4000 نسمة، يتحدثون التركية إلى جانب العربية، ويحافظون على هوية تركية-لبنانية متماسكة. ويستفيد الطلاب من منح دراسية تركية تصل سنويًا إلى 7 أو 8 منح، ما يتيح لهم استكمال التعليم في الجامعات التركية.
الحياة اليومية والعمل
أهل الكواشرة يعملون اليوم في الزراعة وتربية المواشي، بعد أن كانت حياكة السجاد التركي أحد أنشطتهم التقليديّة. ومع ذلك، يفضل بعض الشباب مواصلة التعليم أو الانضمام إلى الجيش اللّبناني، بينما يختار الآخرون العمل في القرية والبقاء قريبين من جذورهم.
بحيرة الكواشرة
لا تقتصر ميزات البلدة على تراثها الثقافي فحسب، بل تشمل أيضًا بحيرة الكواشرة، التي أنشئت عام 1973 لري الأراضي الزراعيّة، ثم تحولت إلى معلم سياحي وزراعي بارز. بعد أعمال توسعة وتأهيل في 2013، ازدادت سعتها إلى 400,000 متر مكعب، وتغذي حوالي 100 هكتار من الأراضي الزراعية. كما تم تنظيف البحيرة وإنشاء ممرّات محيطة بها، لتصبح وجهة للاستجمام وصيد الأسماك، ولتعزيز السياحة في عكار.
الكواشرة تحمل في كل حجر وزاوية قصة أكثر من أربعة قرون، حيث تختلط الثقافة التركية بالهوية اللّبنانية بانسجام فريد. من بحيرتها الغنية بالحياة إلى تقاليد سكانها اليومية، تثبت هذه القرية أن الأصالة والتجدّد يمكن أن يسيرا جنبًا إلى جنب، وأن الجذور العميقة قادرة على الصمود رغم تقلبات الزمن. لا تفوّت فرصة التعرّف على هذا الجمال المختلط بين الماضي والحاضر، وزيارة الكواشرة لتكتشف بنفسك قصة قرية صمدت أمام الزمن واحتفظت بهويتها بكل فخر.